الدورتان المائيّة والهوائيّة

   من الأمور المعلومة أنّ الهواء الذي يحيط بنا هو مادّة غازيّة مركّبة من دقائق صغيرة عارية عن اللون والرائحة والطَعْم ذات ثقل معلوم وحجم يشغلان حيّزًا، وهو يحيط بالكرة الأرضيّة من كلّ الجهات على مسافات شاسعة من سطحها، قدّرها بعضهم بخمسين ميلًا وبعضهم بمئتين وأوصلها بعضهم إلى خمسمئة ميل، وغالب المحقّقين على أنّها بين مئتين ومئتين وخمسين ميلًا.

   ولا يخفى أنّ من خصائص المادّة عمومًا أنّه كلّما ارتفعت درجة حرارتها ازداد حجمها بالتمدّد، فإذا أحْمَينا قطعة حديد مثلًا نرى حجمها قد صار أكبر ممّا كان عليه قبل الإحماء، وهذا الناموس أي ناموس التمدّد عند الإحماء يصدق على جميع أنواع المادّة ما عدا بعضًا من المعادن والماء.

   أمّا الماء فحجمه يتقلّص كلّما ارتفعت حرارته فوق درجة التجمّد حتّى يبلغ 4 من السنتغرايد وبعد ذلك يتَّبِع الناموس العامّ. ولذلك ترى التجمّد يطفو على وجه الماء وذلك لأنّ ثقله النوعيّ أقلّ من ثقل الماء النوعيّ، وبعبارة أخرى لأنّ التجمّد أخفّ من الماء مع أنّ حرارته أقلّ من حرارة الماء العاديّة بعدّة درجات. وما ذلك إلّا دليل على حكمة الباري جلّ وعلا، فلولا وجود هذه الصفة الخاصة في الماء لكان التجمّد الذي يتكوّن بمقادير عظيمة في الأصقاع الشماليّة والجنوبيّة يغوص إلى أعماق البحر حيث لا تصل إليه حرارة ولا تؤثّر فيه الرياح فيزحف من الشمال والجنوب ولا يطول الحال حتّى يملأ البحار.

   وقد سبق أنّ الأجسام كلّما ارتفعت درجة حرارتها تمدّدت وتباعد بعض ذرّاتها عن بعض، وذلك ظاهر في السوائل أكثر منه في الجوامد، وفي الغازيّات أكثر منه في السائلات، ولذلك إذا سخن مقدارًا من الهواء تمدّد حالًا وتباعدت دقائقه بعضها من بعض، وبذلك ينقص ثقله عن ثقل الهواء المحيط، وحينئذ لا يني أن يرتفع إلى الأعلى تاركًا وراءه جوفًا فارغًا.

   ولمّا كانت الطبيعة تأبى الفراغ فإنّه حالًا ما يرتفع بسرعة الهواء من كلّ الجهّات أو من بعضها، ويشغل محلّ الهواء المرتفع، وهذا الانتقال هو الذي ينشىء ما نسمّيه ريحًا. ولا نبعد المرمى في إيضاح ما تقدّم، فلو أوقدنا نارًا في غرفة مغلقة وصبرنا قليلًا حتّى يسخن ما فيها من الهواء ثمّ فتحنا باب الغرفة بعض الفتح وأخذنا شمعتين مشتعلتين ووضعنا إحداهما عند أسفل الباب والأخرى عند أعلاه، لرأينا لهب الشمعة السفلى ينقذف إلى الداخل ولهيب العليا ينقذف إلى الخارج، وذلك لأنّ الهواء الحارّ ارتفع إلى الأعلى، فلمّا فتح الباب خرج من قسمه العلويّ ودخل الهواء البارد من الأسفل ليشغل محلّ الهواء المرتفع. وعليه فلا نعجب إذا رأينا الريح تهبّ على أماكن الحريق بشدّة مع أنّها كانت قبل ذلك راكدة، إذ إنّ هذا من الأمور الضروريّة حينئذٍ فإنّ نيران المكان المحترق تسخّن طبقات الهواء التي فوقها، فترتفع هذه ويتوارد ما حولها من الهواء البارد إلى محلّها وذلك يسبّب ريحًا كلّما تقدّم فيزداد بها استعار النيران وقوّة التهابها، وكلّما ازدادت قوّة النيران ازدادت سرعة ارتفاع الهواء فازدادت حركة الريح قوّة وهلمّ جرّا.

   أمّا الرياح العاديّة فأشهر أسبابها انعكاس أشعّة الشمس على طبقات الهواء السفلى فتحميها وتمدّدها وترفعها، وعند ارتفاعها يخلو مكانها فيجري إليه ما يجاورها من الهواء البارد حتّى يسخن، فيرتفع أيضًا ويملأ مكانه الهواء المجاور فتتابع بذلك حركة الرّيح، إلّا أنّها عند ارتفاع ما سخن من الهواء تكون حركتها عموديّة، وعند انجذاب ما يجاوره من الهواء البارد إلى مكانه تكون حركتها أفقيّة. ثمّ إنّ الهواء الذي يرتفع إلى الطبقات العليا يتمدّد هناك إلى كلّ جهة فيبرد ويتقلّص، وعند ذلك يعود فينزل إلى سطح الأرض إلى المكان الذي ارتفع عنه أوّلًا فإذا سخن عاد فارتفع أيضًا، وهكذا تتمّ الدورة الهوائيّة وهي أوّل الدورتين اللتين فيهما كلامنا في هذه العجالة.

   وأمّا الدورة الثانية وهي الدورة المائيّة فلا يخفى أنّ الشمس تفعل على مياه الأرض فتحوّل بحرارتها قسمًا عظيمًا منها إلى بخار مائيّ وهي قائمة على عملها هذا ليلًا ونهارًا، صيفًا وشتاءً، ربيعًا وخريفًا، ومع أنّ هذا العمل لا ينقطع مدّة الفصول الأربعة، فأهميّته لا تظهر إلّا في فصل الشتاء لأنّ حرارة الهواء في بقيّة الفصول لا تدعه يظهر بالهيئة التي يظهر فيها هذا الفصل.

   ثمّ إنّ البخار المائيّ أخفّ من الهواء ولذلك يطفو في طبقات الهواء العليا وهو مركّب من فقاقيع صغيرة من الماء لا لون لها، تبقى متباعدة بعضها عن بعض ما دامت حرارة الهواء تتخلّلها في درجة تحفظها على تلك الحالة، ولكن متى ارتفع هذا البخار إلى طبقات أبرد، تتقلّص دقائقه وتتجمّع بعضها إلى بعض وحينئذٍ يظهر لنا مجسّمًا نسمّيه غيمًا.

   وللغيوم أشكال وأنواع مختلفة لا محلّ لوصفها هنا وهي تبقى سابحة في الهواء إلى أن يشتدّ البرد فيقلّص أجزاءها ويضمّ تلك الفقاقيع الصغيرة بعضها إلى بعض فتصير قطرات كبيرة لا قوّة للهواء على حملها فتسقط إلى الأرض ونسمّيها مطرًا. هذا إذا لم تهبط درجة الحرارة قبل هذا التجمّع إلى درجة التجمّد فإذا هبطت إلى تلك الدرجة أو ما دونها، تجمّدت تلك الذرّات وسقطت إلى الأرض وبهيئة الثلج. أمّا البرَد فيحصل من تجمّد قطرات المطر الكبيرة بعد أن تنفصل من الغيم، لا عن تجمّد الذرّات البخاريّة، وهذا هو الفرق بين تكوّن البَرَد وتكوّن الثلج.

   ثمّ إنّ المياه التي تسقط إلى الأرض تنقسم إلى أربعة أقسام، منها يسيل على وجه الأرض ويجرف أوساخها وترابها ورملها وحصاها ويذهب بها توًّا إلى البحر. وقسم منها يتحوّل إلى بخار قبل أن يصل إلى البحر ويعود فيسقط مطرًا أو ثلجًا أو برَدًا. وقسم منها يتغلغل في الأرض ولا يظهر على سطحها البتّة، بل يخرق طبقاتها على اتّجاهات مختلفة إلى أن يصل رأسًا إلى البحر.

   والقسم الرابع يخرق الأرض إلى أعماق متفاوتة ثمّ يعود فيظهر بالتدريج بمظاهر مختلفة كالأنهار والينابيع ومياه الآبار، بعد أن يجري على سطح الأرض ويطفىء غليلها ويروي حيوانها ونباتها، يودّعها بدمعه المدرار ويعود إلى مقرّه الأصليّ الذي خرج منه قبل ذلك بمدّة لا تنيف على بضعة أشهر. وهكذا تتمّ الدورة المائيّة التي تتبّعنا خطاها من البحر إلى البحر وبها تمّ وصف هاتين الدورتين اللتين جعلتا كرتنا الأرضيّة تاج السيّارات مع أنّها تعدّ بين أصغرهنّ.